للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

مائة عام ونيف بعد اكتمال نظرية النسبية العامة (1915-2020)

  • الكاتب : محمد أبطوي

    المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

  • ما تقييمك؟

    • ( 4 / 5 )

  • الوقت

    12:27 م

  • تاريخ النشر

    24 يونيو 2020

احتفى المجتمع العلمي العالمي قبل خمس سنوات بالذكرى المائوية الأولى لنظرية النِّسبيّة العامَّة (1915-2015)، تلك النظرية الفيزيائية التي أبدعها أينْشتاين بين 1907 و1915 والتي تمثل عماد التفسير الذي يأخذ به العلماء اليوم لفهم مختلف ظواهر الكون المتعلقة بالثَّقالة (gravitation) وعلاقتها بالمكان والزمان. كما تمثّل النسبية العامّة الأساس العلمي للنظريات التي تفسر تاريخ الكون وتطوره في سياق الكوسْمولوجيا المعاصرة التي تقدم صورة دقيقة لتاريخ الكون المرئي والذي يقاس عمره بحوالي أربعة عشر مليار سنة حسب نظرية "الإنفجار العظيم" (Big Bang theory). ورغم كل محاولات إبطالها وتفنيدها، ما زالت النسبية العامة تحقق المزيد من النجاحات. ويحاول علماء الفيزياء الفلكية اليوم أن يختبروا دقة التنبؤات الصادرة عنها عبر فحص فرضياتها في ظروف قاسية ومتطرفة جدا، تلك التي توجد بجوار الثقوب السوداء (Black Holes).


سنقدم في هذه المقالة لمحة عن نظرية النسبية ونستعرض بالخصوص المراحل الأساسية لبناء النسبية العامة وانبثاقها الصعب في أبحاث أينشتاين.

 

    1. أينشتاين العالِـم المبدع

يعود الفضل في صياغة نظرية النسبية إلى الفيزيائي الألماني الشهير ألبرت أينشتاين (Einstein) الذي ولد بمدينة أولم في مارس 1879، وفي 1896 إلتحق بالمدرسة الفيدرالية المتعددة التقنيات بزوريخ (سويسرا). حصل على الاجازة في سنة 1900 وبدأ حياته العملية كموظف بسيط في مكتب البراءات ببرن. وفي 1905 حصل على الدكتوراه في الفيزياء ونشر أربع مقالات تحمل إحداها عنوان "حول الكترودنياميكا الأجسام المتحركة". وتعتبر هذه المقالة البداية الفعلية لنظرية النسبية الخاصة (Special relativity)، وقد طور أينشتاين تلك النظرية بين سنتي 1907 و1915 في صورة نظرية فيزيائية شاملة تعرف بالنسبية العامة (General Relativity). كما ساهم أينشتاين في دراسة الظواهر الميكروفيزيائية واكتشف "الفوتون" الذي هو جسيم لا كتلة له يحمل الطاقة الضوئية. وفي سنة 1921 حصل على جائزة نوبل في الفيزياء تكريما له على هذا الإكتشاف المعروف بالتأثير الكهرو ضوئي. هاجر أينشتاين إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1933 هربا من جو الضغط السياسي الذي سيطر على ألمانيا إبان حكم حزب الإشتراكية الوطنية واستقر في جامعة برنستون. كتب في 1939 رسالة إلى رئيس الولايات المتحدة روزفلت يدعوه فيها إلى تطوير الأبحاث حول الطاقة الذرية لاستباق العلماء الألمان، وبعدها انطلق برنامج الأبحاث الأمريكي الذي أدى إلى صناعة القنبلة الذرية. وتوفي أينشتاين في برنستون في 1955.

ترتكز نظرية النسبية على إعادة تأهيل فكرة النسبية التي شكلت منذ القرن السابع عشر جزء لا يتجزأ من الفيزياء الحديثة. لكن أينشتاين رفع مبدأ النسبية إلى مستوى المبدأ التفسيري العام وأقام عليه نظرية فيزيائية تعتبر من أهم منجزات العلم المعاصر.
 

   2. النسبية الخاصة

ترتكز النسبية الخاصة على مبدأين رئيسين وتطور النتائج العديدة المترتبة عنهما:

  • مبدأ النسبية: تحتفظ القوانين الفيزيائية بصيغة ثابتة في جميع المنظومات المرجعية العُطالية أي التي تختلف عن بعضها بسرعات ثابتة. بتعبير آخر تتساوى كل المنظومات المرجعية العطالية من حيث صلاحيتها في القياس، أي في وصف الظواهر. مثلا في تجربة قطاران واحد واقف والآخر يسير بجانبه بسرعة ثابتة، يمكن للمراقب أن يبني قياساته على أساس أن القطار الأول هو الذي يتحرك أو أن الثاني هو الذي يسير.
  • مبدأ ثبات سرعة الضوء: سرعة الضوء في الفراغ لها قيمة ثابتة ومطلقة بالنسبة لجميع الراصدين، كما أنها لا تعتمد على حركة أو سرعة المصدر الذي ينبعث منه الضوء، وهذه السرعة تساوي حوالي 300.000 كم/ث وهي أقصى سرعة ممكنة.


يحمل هذان المبدآن في طياتهما معاني عميقة ومفاهيم جدلية مثيرة. فالمبدأ الأول قضى بصفة نهائية على فرضية الأثير التي عششت في الفيزياء منذ نيوتن واستُخدِمت كمرجع نهائي لتفسير الحركة المطلقة وشرح الظواهر الكهرومغناطيسية. في مقابل ذلك تعلن نظرية النسبية أنه لا وجود لمرجعية مطلقة وكل المرجعيات ذات الحركة المنتظمة متساوية في وضعها الفزيائي، أي أن قوانين الفيزياء لا تميز بينها بتاتا. أما المبدأ الثاني فيقرر ثبات سرعة الضوء وبذلك انتفض على قوانين الميكانيكا الكلاسيكية والتي كانت تعتبر أن انتشار الأمواج الكهرومغناطيسية -وضمنها الأمواج الضوئية- يعتمد على حركة المصدر وعلى حركة الراصد، تماما كما يحصل لانتشار الصوت في الهواء.

وقد أدى التسليم بالمبدأين المؤسسين لنظرية النسبية الخاصة إلى تغيير جذري في مفاهيم الزمان والمكان والكتلة والطاقة. فالأزمنة المسجلة في منظومات غير متماثلة السرعة تختلف فيما بينها حسب سرعاتها بالنسبة لبعضها (انتفاء فكرة التزامن)، كما تتمدد الأطوال في اتجاه الحركة وتكبر الكتلة وتنزع إلى التحول إلى طاقة بالتناسب مع ارتفاع السرعة حسب ما تقتضيه معادلة أينشتاين الشهيرة: ط=ك س2 (E = mc2): الطاقة الحركية ط لجسم ما تساوي حاصل ضرب كتلته ك في مربع سرعة الضوء.

تستمد نظرية النسبية المقصورة أهميتها القصوى في الفيزياء المعاصرة من كونها نظرية حول قياس المقادير الفزيائية. فهي لا تقدم نموذجا أو فرضية سببية حول بنية الظواهر، بل تعرض عددا من المبادئ المتعلقة بالزمان والمكان والضوء والتي تحكم شروط كل قياس فيزيائي. وهذا ما يعطيها كل عموميتها وقدرتها على دمج عدد كبير من الظواهر المختلفة في مجالها النظري، سواء كانت ماكروسكوبية (كبيرة)، أو ذرية أو نووية، باعتبارها ظواهر زمانية ومكانية قابلة للقياس وتخضع معرفتها للمسلمات التي تأخذ بها النسبية في قياس المقادير الفيزيائية. في المقابل لا تفسّر النظرية الدور الخاص المناط بسرعة الضوء، بل تكتفي بتسجيل المكانة الخاصة لانتشار الأمواج الكهرومغناطسية في الفراغ وتقيم عليها صرحها النظري لتعيد النظر في كل الفينومينولوجيا المبنية على الزمان والمكان.
 

   3. النسبية العامة

عمّم أينشتاين بين سنتي 1907 و 1915 النسبية الخاصة وأنشأ نظرية النسبية العامة. وكان مرتكز هذه النظرية الجديدة طفرة فكرية شديدة الجرأة دفعت الفكر الفزيائي إلى اقتحام عوالم لم يكن من السهل مباشرة البحث الفيزيائي فيها. وانصب اهتمام آينشتاين في النسبية العامة على دراسة مفاهيم الزمان والمكان والحركة والمادة على صعيد الكون برمته، فشكلت هذه النظرية قاعدة البحث النظري والتجريبي في الكوسمولوجيا المعاصرة التي تدرس الكون باعتباره كلا واحدا وموضوعا علميا خاضعا للتطور.

إذا كانت النسبية المقصورة قد ربطت الزمان بالمكان برباط وثيق وأعطت للقياس الفزيائي إطارا زمكانيا رباعي الأبعاد، فإن النسبية العامة شدت وثاق هذا الإطار الزمكاني إلى المادة التي يحتويها. وقد سعى أينشتاين إلى استكشاف العلاقة الديناميكية القائمة بين الزمكان والمادة. من ناحية ثانية، تنبني النسبية العامة على المبدأ الشهير المعروف بمبدأ التكافؤ بين قوى العطالة وقوى الثقالة، فألغت أفضلية المنظومات العطالية وعممت مبدأ النسبية.

في هذا السياق، اعتبر أينشتاين أن الثقالة ليست قوة مثل القوى الأخرى أي ناتجة عن فعل خارجي، حسبما كان ينص عليه التعريف النيوتوني، بل هي نتيجة للتسارع في الزمكان، أي أنها نتيجة فيزيائية لمعطى هندسي يتعلق ببنية الزمكان التي تتحول بفعل وجود المادة من بنية مستوية إلى بنية محدودبة. وقد بيَّن أينشتاين كيف أن البنية الهندسية المعقدة للمكان الفيزيائي الذي تحصل فيه الحوادث هي تلك التي تصفها الهندسات اللاأوقليدية (هندسات ريمان ولوباتشفسكي). فالمتصل الزمكاني يتأثر بفعل توزيع المادة والطاقة التي يحتويها ويتحول انبساطه إلى انحناء وانحراف. هكذا فوجود كتلة من المادة في مكان ما وفي زمان ما يحدث تغييرا في البنية الهندسية للمحيط، وتصير هاته الأخيرة بفعل ذلك الوجود منحرفة ومنحنية، وعندما يتحرك جسم ما في هذا المكان المنحرف تتأثر حركته بفعل احدوداب الزمكان وكأن بنية الزمكان تحدد كيفية تحرك الأجسام. هكذا فإن تصور الكون المنبثق عن هذه النظرية الثورية ينم عن كون دينامكي متفاعل مع محيطه الزمكاني، وهذا الأخير ليس إطارا خارجيا ومحايدا بل هو معطى متفاعل معه ومحدِّد لصيرورته. وهذا ما تبرزه حركة الكواكب بجوار الكتل العملاقة التي تجاورها وتدل عليه أيضا حركة الأشعة الضوئية الآتية من بعيد والتي تمر في محيط منحرف فتتبع في خط سيرها مسارات منحرفة.

وعلى هذا الاساس تنبأ أينشتاين بأن أشعة الضوء الآتية من نجم بعيد والمارة بجوار كتلة الشمس تنحرف عن الخط المستقيم بفعل التحريف العميق الذي تحدثه الكتلة الشمسية في محيطها. وقد أكد العلماء هذه الفرضية سنة 1919 في التجربة الشهيرة التي قادها الفزيائي الانجليزي أرثور إدينجتون عند كسوف الشمس الكلي الذي وقع في تلك السنة. واعتمادا على هذه الفرضية، تمكن أينشتاين من تفسير الاختلال الملاحظ في مدار كوكب عطارد والذي تيسّر فهمه بافتراض التأثير الذي يحدثه الحقل الثقالي للشمس.

ومن النتائج المثيرة المترتبة عن النسبية العامة يمكن أن نذكر عددا من الفرضيات التي فحص العلماء بعضها وتأكدوا منها بينما لا زال البعض الآخر محط بحث متواصل، مثل "الثقوب السوداء" و"الأمواج الثقالية". وتدل ظاهرة "الثقوب السوداء" على تقلص كتل النجوم العملاقة (أكثر من 10 كتل شمسية) بفعل التجاذب الثقالي إلى أن يصغر حجمها إلى أقصى حد ممكن، فتكبح في نطاقها كل كتلتها وتحدب الزمكان المحيط بها فتنحرف الأشعة الضوئية المنبعثة منها وتعود ثانية اليها. وقد سميت بالثقوب السوداء لأنها لا ترى بانبعاث الضوء منها بل نستشعرها فقط بتأثيرها الثقالي المرتفع في منطقة ما من الفضاء البعيد.

أما "الأمواج الثقالية" فتتعلق بانتقال التأثير الثقالي؛ حيث أن الكتل المتسارعة تصدر أمواجا خاصة تحمل فعل الثقالة. وقد مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء في 1993 للعالمين الأمريكيين هولس وتايلور لاكتشافهما الأمواج الثقالية بطريقة غير مباشرة عبر دراسة النوابض (pulsars)، وهي نجوم نيوترونية كثيفة جدا اكتشفت في 1967 وتدور حول نفسها بسرعة كبيرة مرسِلة أحزمة من الأمواج الراديوية على دفعات منتظمة.
 

4. نشأة النسبية العامة

من أجل فهم الخلفية النظرية والتاريخية لنشأة النسبية العامة ينبغي أن ننظر إلى كيفية تطور نظريات الثقالة قبل بداية القرن العشرين. خلال الفترة القديمة والوسيطة لم يتمكن الفكر العلمي من إفراز نظرية متكاملة لفهم الثقالة. اعتبر أرسطو في دراسته لحركة الأجسام أن القوة يمكن تطبيقها فقط عن طريق الاتصال (contact) وبالتالي يستحيل التأثير عن بعد، ولكي يستمر جسم ما في حركة منتظمة يلزم أن تغذي حركته قوة ثابتة. ورغم الانتقادات التي تركزت على منظومة الفلسفة الطبيعية الأرسطية في العصر الهلينستي وفي العلم العربي والإسلامي، فإنها لم ترق إلى مستوى انتاج نظرية فيزيائية بديلة رغم أنها فتحت الباب للتجديد العلمي الذي حدث بأوروبا الغربية في أوائل العصر الحديث.

أثار إعلان كوبرنيكوس في أواسط القرن السادس عشر عن نظام فلكي جديد يرتكز على حركة الأرض وثبات الشمس انبثاق تساؤلات هامة تتعلق بمسألة الثقالة. فوضعت قوانين كيبلر حول حركات الكواكب ودراسات جاليليو لحركة الأجسام أسُس نظرية نيوتن حول الجاذبية التي عرضها في كتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" (لندن 1687).

ويمكن التعبير عن قانون الجاذبية النيوتوني كما يلي: ق = -ج )ك1 ك22 ( (   

حيث تعبّر ق عن القوة الموجودة بين الكتلتين ك1 وك2 و م المسافة الفاصلة بينهما و ج ثابت قوة الجاذبية الكونية.

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، صاغ الفيزيائيون أولر ولاكرانج وكليرو ولابلاس وبواسون وهاميلتون وجاكوبي قوانين نيوتن في الحركة في صورتها النهائية على هيئة صرح رياضي شديد العمومية والتماسك والقوة التفسيرية، وتأكدت صحة نظرية نيوتن في الجاذبية الكونية بفضل الدعم المتنوع الأوجه الذي حصلت عليه بفعل الأبحاث الفلكية والتجارب الفيزيائية المختلفة.

غير أن عددا من التساؤلات ظلت تؤرق الفيزيائيين، مثل مسألة انتقال تأثير الثقالة بين الأجسام. وقد عبر عن هذا الوضع القلق الفيزيائي الإنجليزي ماكسويل في 1864 في دراسته للمجال الكهرومغناطيسي (electro-magnetic field) وحاول إرجاع فعل الثقالة إلى المجال مثلها مثل التجاذب والتنافر اللذان يسمان تأثير الكهرباء والمغناطيس. وفي 1900 افترض الفيزيائي الهولندي هندريك لورنتز أنه يمكن إرجاع الثقالة إلى تأثيرات تنتشر بسرعة الضوء. من جانبه، اقترح الرياضي الفرنسي بوانكاريه في مقالة كتبها في يوليو 1905 أن تخضع تحويلات مجموع القوى لقواعد لورنتز في التحويل، واستنتج فساد قانون الجاذبية النيوتوني في هذه الظروف وافترض وجود موجات ثقالية (gravitational waves) تنتشر بسرعة الضوء.

وفي 1907، سنتان بعد نشر المقالات التي وضعت أسس النسبية الخاصة، تساءل أينشتاين حائرا كيف يمكن تغيير نظرية نيوتن حول الثقالة لكي تتوافق مع النسبية الخاصة، فألحت عليه فكرة اعتبرها أسعد وأفضل فكرة خطرت له في حياته حين أمسك ببداية الخيط الذي أوصله إلى نظرية النسبية العامة ووضع يده على مبدأ التكافؤ (equivalence principle) الشهير. فلو سقط إنسان من ارتفاع شاهق، فإنه لن يشعر بوزنه أثناء السقوط وبالتالي لن يشعر بجذب الأرض له. لنفترض أننا في مصعد متحرك على سطح الأرض، وتسقط داخله كرة من ارتفاع. تسقط الكرة إلى أسفل وترتطم بأرض المصعد بسبب الجاذبية الأرضية. وإذا افترضنا أن المصعد مزود بمحرك نفاث جعله ينطلق إلى أعلى حتى يصل إلى منطقة بعيدة في الفضاء الخارجي، لما تسقط الكرة من نفس الإرتفاع بينما يسير المصعد بسرعة تزيد فيها سرعته بإطراد في إتجاه السقف، فإن الكرة سوف تسقط أيضا إلى أرض المصعد. في الواقع لم تسقط الكرة وإنما ظلت في مكانها في حين صعدت أرض المصعد إليها. لكن يبدو لنا من الداخل أن الكرة هي التي سقطت إلى أرض المصعد ما دامت سرعة المصعد تتزايد، ونجد أيضا أن أرض المصعد تضغط على أقدامنا فنشعر بأوزاننا كأننا نقف على الأرض تماما. وهذه الآثار لا تحدثها السرعة المنتظمة، لأن هذه الأخيرة تجعل الكرة وتجعلنا نحن أيضا داخل المصعد نسبح في الهواء بدون أوزان. هل هناك فرق بين جاذبية الأرض وحركة المصعد بسرعة؟ لا فرق في الواقع، فما نسميه الجاذبية ليس شيئا آخر غير الحركة المتسارعة في المكان.

اكتشف أينشتين مبدأ تكافؤ الجاذبية مع الحركة المتسارعة عام 1907م ونشر اكتشافه في مقالة كتبها ذلك العام. بيد أنه لم ينشر شيئا جديدا عن الثقالة حتى سنة 1911 حين لاحظ أن انحراف الضوء في مجال ثقالي، والذي كان يعرِف منذ 1907 أنه يحصل كنتيجة لمبدأ التكافؤ، يمكن فحصه عن طريق الأرصاد الفلكية. وفي تلك الأثناء كان العلماء يناقشون مسألة الإنزياح الثقالي نحو الأحمر (redshift) والذي يعني أن ضوءا صادرا عن كتلة كبيرة جدا سينزاح نحو الأحمر بفعل فقدان الطاقة التي يتعرض لها تحت تأثير المجال الثقالي المرتفع. وفي سنة 1912 نشر أينشتاين مقالات حول الثقالة استنتج فيها أن تحويلات لورنتز لا يمكن تطبيقها في ظروف تكون فيها الثقالة مرتفعة التأثير وأن معادلات المجال الثقالي لن تكون خطيّة وبالتالي فمبدأ التكافؤ لا يمكن تعميمه. ودفعت هذه النتائج علماء آخرين إلى الانكباب على دراستها واستنتج أينشتاين المحبط جراء عجزه عن تحقيق اختراق علمي يفسر به الثقالة أنه إذا كانت كل المنظومات المتسارعة متكافئة، فلا يمكن للهندسة الأوقليدية أن تكون صالحة فيها كلها. حينها عاد إلى رياضيات العالم الألماني جاوس (ت. 1855) واطّلع على أعمال ريمان وريتشي وليفي-تسيفيتا في الهندسة اللاأوقليدية. وفي 1913 نشر مع غروسمان مقالة استخدما فيها بعض نتائج هذه الأبحاث الهندسية. وستشكِّل بعض النتائج الواردة في هذه المقالة أهم الأدوات الرياضية للنسبية العامة. وفي هذه المرحلة تصور أينشتاين الثقالة باستخدام الموَتِّر القياسي (metric tensor) لكنه لم يكن مقتنعا بذلك التصور. وفي أكتوبر 1914، كتب مقالة أخرى كان نصفها تقريبا يتعلق بالتحليل الرياضي للموتِّر وللهندسة التفاضلية. وفي خضم مراسلته للرياضي الإيطالي ليفي-تسيفيتا نبّهه هذا الأخير إلى بعض الأخطاء التي اقترفها في تحليله الرياضي السابق. وفي نهاية يونيو 1915، قضى أسبوعيين بمدينة جوتنجن الألمانية وألقى عدة محاضرات حول نظريته التي لم تكن قد اكتملت بعد، وقد حضر هذه المحاضرات الرياضيان الألمانيان الشهيران هيلبرت وكلاين، وقد اعتقد أينشتاين حينها أنه أقنعهما بأفكاره.

وتمثّلت المرحلة الأخيرة في بناء نظرية النسبية العامة في الأبحاث التي نشرها أينشتاين وهيلبرت تقريبا في نفس الوقت. فقد تمكنا معا من تحديد الأخطاء التي اقترفها أينشتاين في صيغة نظريته كما عرضها في أكتوبر 1914 وتبادلا مجموعة من الرسائل في نوفمبر 1915 واكتشفا كلّاً على حدة وبفارق بضعة أيام الصيغة النهائية لمعادلات المجال الثقالي. وفي 18 نوفمبر 1915 اكتشف أينشتاين اكتشافا هاما أثار حماسه وغمره بالفرح، ويتعلق الأمر بتفسيره الناجح للاختلال الذي كان قد لاحظه العلماء منذ مدة في مدار كوكب عطارد حول الشمس. كان أينشتاين قد اقتنع منذ 1911 بضرورة فحص نظريته على ضوء الأرصاد الفلكية فأجرى بمساعدة بعض الفلكيين حسابا دقيقا لمدار عطارد بهدف تأكيد النسبية العامة. وفي 1913 برهن على أن المدار يتطابق تماما مع ما تتنبأ به نظريته. ومنذ ذلك الحين بدأ علماء آخرون في مراقبة الفرضيات الناتجة عن النسبية العامة، ونذكر هنا على الخصوص الدعم الباهر الذي حصلت عليه النظرية سنة 1919 على يد فريق علمي إنجليزي قاده أرثر إدينجتون والذي أكد تنبؤ أينشتاين بأن الضوء المار بجوار كتلة ضخمة ينحرف عن مساره المستقيم.

أرسل أينشتاين للنشر في 25 نوفمبر 1915 مقالته الشهيرة "معادلات مجال الثقالة" (The field equations of gravitation) والتي تضمنت المعادلات الصحيحة لنظريته. ونجد في هذه المقالة نفس الحسابات التي كان قد حصل عليها في السابق بشأن انحراف الضوء واختلال مدار عطارد.

هكذا إذن، وفي خضم بحث علمي شاق وبعد بدايات خاطئة كثيرة ونهايات غامضة متعددة، استكمل أينشتاين بناء نظرية النسبية العامة التي تحتوي في صيغتها النهائية على معادلات رياضية معقّدة وتزخر باستنتاجات غامضة لم يقو عليها سوى كبار علماء المتخصصين. ويتفق كل العلماء اليوم على أن هذه النظرية الجميلة ليست فقط أعظم أعمال أينشتاين، بل تُعتبر من أهم نظريات الفيزياء المعاصرة.

 

المزيد من المعلومات عبر المراجع التالية:

  • S. Chandrasekhar, “Einstein and General Relativity: Historical Perspectives.” American Journal of Physics 47 (3) (1979), 212-217.
  • J. Earman, M Janssen and J D Norton (eds.), The Attraction of Gravitation: New Studies in the History of General Relativity (Boston, 1993).
  • J. Eisenstaedt and A. J. Kox (eds.), Studies in the History of General Relativity (Boston, 1992).
  • J. Earman and C. Glymour, “The gravitational Red Shift as a Test of General Relativity: History and Analysis.” Studies of History and Philosophy of Science 11 (3) (1980), 175-214.
  • D. Howard and J. Stachel (eds.), Einstein and the History of General Relativity (Boston, 1989).
  • J. Mehra, “Origins of the Modern theory of Gravitation: The Historical Origins of the Theory of General Relativity from 1907 to 1919.” Bulletin de la Société Royale des Sciences de Liège 43 (1974), 190-213.
  • A. Pais, 'Subtle is the Lord...' The Science and the Life of Albert Einstein (Oxford, 1982).
  • J. J. Stachel, “How Einstein Discovered General Relativity: A Historical Tale with Some Contemporary Morals.” General relativity and Gravitation (Cambridge-New York, 1987), 200-208.
  • C. Vilain, “Spherical Coordinates in General Relativity from 1915 to 1960: A Physical Interpretation.” Studies in the History of General Relativity (Boston, MA, 1992), 419-434.

 


البريد الالكتروني للكاتب: mohamed.abattouy@dohainstitute.org

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

مواضيع ذات علاقة

0 التعليقات

أضف تعليقك

/* Whatsapp Share - 26-6-2023 */