مع بداية الإجازة الصيفية وهي الأطول (وربما تكون الأكثر مللاً) في تاريخنا المعاصر وغير المعاصر رغبت أن أكتب مقالاً خاصاً (وإن كان من زاوية فريدة) عن أهمية الاستفادة، ولو بالحد الأدنى، من وقت الفراغ الهائل الذي ينتظرنا وأنه لا ينبغي أن تضيع جميع أوقتنا سدى خلال العطلة الصيفية. من واقع التجربة لا ألطف ولا أروح على النفس من ذكر القصص وطرائف الأخبار، ولهذا وبالإذن من الدكتور غازي القصيبي سوف استعير عنوان كتابة المعروف (عن قبيلتي أحدثكم) فسوف أحدثكم عن بعض (شيوخ قبيلتي) وماذا يعملون في الإجازات وأغرب أخبارهم اللطيفة في هذا الشأن. قبيلة الدكتور غازي القصيبي التي عناها هي قبيلة الشعر والشعراء أما قبيلتي التي انتسب إليها فهي قبيلة (العلم والعلماء) وإن كنت، حقاً وصدقاً، أنا لست إلا صعلوك من صعاليك تلك القبيلة الذهبية.

بالرغم من أن العلماء والمخترعين هم مثل بقية البشر إلا أن الصورة النمطية (غير المنطقية عنهم) تضعهم في إطار أنهم مجانين ومدمني عمل workaholic ونتيجة لاستغراقهم التام وهوسهم العلمي فإنهم لا يرفهون عن أنفسهم بأخذ إجازة أو عطلة عن العمل. وطبعاً واقع الحال للغالبية العظمى من العلماء والمخترعين أنهم بالفعل يتمتعون بالإجازات، والبعض يحرص على أخذ عطلة من العمل، لكن ما يفرق العلماء أنهم حتى وإن أخذوا إجازة وتوقفوا عن الذهاب للمختبر البحثي إلا أن (عقولهم) تستمر في التفكير والتحليل وهو ما قد يسبب عند البعض منهم أعراض الشرود الذهني المشهورة. وسوف نقوم بذكر بعض أخبار بعض العلماء الذين ربما توصلوا لبعض أشهر اكتشافاتهم العلمية وهم فعلياً خارج المختبر وأثناء قضائهم (لفترة صفاء ذهني) وقت الإجازات.

بيت شعر جميل في الأدب العربي صيغ لتوصيف يقظة الذئب هو:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي       بأخرى المنايا فهو يقظان نائمُ

هذا التوصيف البديع يصلح أحيانا في حال بعض العلماء (الذيبان) الذين تستمر عقولهم بالتفكير خارج مختبراتهم، وقد توافق معهم لحظة الإلهام العلمي وهم في أحضان الطبيعة يستمتعون بإجازاتهم الرسمية. لحظة إضاءة البصيرة العلمية (Eureka moment) قد تطرأ فجأة وكأنها إنقداح أو إنارة مفاجئة للذهن والخيال وهي تحدث غالباً في حالة الركود والخمول (وأحيانا حال النوم والنعاس) وليس أثناء زخم العمل والبحث في المختبر. ومن أفضل الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق أن الفيزيائي الأمريكي تشارلز تاونز Townes الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1964 ألهم الأفكار الأولية حول اختراع جهاز الليزر أثناء جلوسه على مقعد حديقة عامة في مدينة واشنطن وهو في حالة صفاء قبل طلوع الفجر. ومن جهاز الليزر إلى جهاز الراديو نجد أن الأفكار العلمية الإبداعية تأتي أحياناً حال الانسجام مع الطبيعية، فالمخترع الايطالي الشهير ماركوني Marconi مخترع الراديو نجده يبدأ التفكير في اختراعه التاريخي عندما كان يقضي إجازته الصيفية في المنتجعات الايطالية من جبال الألب وذلك بعد أن قرأ مقالة عن تجارب العالم الألماني هيرتز حول انتقال الموجات الكهرومغناطيسية، ومن هنا أُلهم الشاب الصغير فكرة تحويل التجربة العلمية إلى منتج تكنولوجي.

ومن المناظر الجبلية الخلابة في جبال الألب إلى السفوح الجبلية الفائقة الجمال في مرتفعات اسكتلندا حيث نلتقي بعالم الفيزياء البريطاني الشهير بيتر هيغز Higgs الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2013 وذلك عن نظريته المتعلقة بتخمين وجود الجسيم الأولي المسمى جسيم بوزون هيغز Higgs boson والذي يشتهر إعلامياً كذلك باسم (جسيم الاله  God particle) حيث أن بدايات هذه الفكرة العلمية لاحت له أثناء انشغال ذهنه بهذا الموضوع عندما كان هيغز يستمتع بجمال الطبيعة بالمشي في إحدى المناطق الجبلية الخلابة في اسكتلندا.

رحلة جبلية أخرى وإلهام علمي مميز حقق جائزة نوبل أخرى ذلك ما حصل مع  عالم الكيمياء الأمريكي كاري موليس Kary Mullis الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1993 لاكتشافه تفاعل البلمرة المتسلسل (التقنية العلمية بالغة الأهمية في أبحاث الجينوم والبصمة الوراثية) حيث أنه انقدحت في ذهنه بدايات اكتشافه العلمي بينما كان يقود سيارته في رحلة ليلية عبر سلسلة جبال شمال كاليفورنيا فخطرت له الفكرة أثناء قيادته المتهورة على هذا الطريق الجبلي لدرجة أنه من شدة انغماسه الذهني في الفكرة الجديدة كاد أن يهوي من إحدى المنعطفات إلى أسفل الجبل. وإن كان العالم الكيميائي كاري موليس نجى من كارثية إلهامه العلمي ولم ينحدر لأسفل الوادي إلا أن البشرية بأجمعها انحدرت لهاوية سحيقة وكارثة محققة كان بدايتها إلهام علمي آخر أثناء إجازة أعياد رأس السنة الميلادية وبين أحضان الطبيعية. رحلة مشي صباحية في عز شتاء شهر ديسمبر لعام 1938 ألهمت العالمة الفيزيائية النمساوية الشهيرة ليز مايتنر Lise Meitner التوصل لبدايات تفسير ظاهرة الانشطار النووي وذلك عندما كانت تتناقش مع ابن أختها الفيزيائي أوتو فريش حول نتائج عالم الكيمياء الألماني أوتو هان المتعلقة بالنشاط الإشعاعي لبعض العناصر الكيميائية.

الاكتشافات العلمية في أوقات الأعياد

ما سبق ذكره كان سرد (لبعض) أبرز الاكتشافات والاختراعات العلمية التي لم تحدث في المختبر وإنما حال تمتع العالم بإجازته بعيدا عن أجواء العمل ولكن في المقابل نعلم بلا شك أن (الغالبية العظمى) من الاكتشافات والاختراعات العلمية تمت فعلاً داخل المختبر. ومع ذلك، الجديد الذي يمكن أن نسلط عليه الضوء هنا هو أن نذكر أخبار البعض من الاكتشافات التي تمت في المختبر (أثناء فترة الاجازات). بمعنى أن بعض العلماء والمخترعين تصل بهم حالة الهوس العلمي المفرطة أنهم يستمرون في إجراء الابحاث والاكتشافات (في المختبرات العلمية) في فترة الاجازات الرسمية والعطل الدينية. من ذلك مثلا أن العالم الالماني غرهارد دوماك Gerhard Domagk الحاصل على جائزة نوبل للطب في عام 1939 نظير اكتشافه التاريخي لدواء السلفوناميد sulfa drugs (أول دواء مضاد للبكتيريا في التاريخ)، كانت التجربة الحاسمة في حياته هي تلك التي اجراها في ليلة عيد الميلاد لعام 1932 وهي التجربة التي اكتشف فيها أن الصبغة العضوية Prontosil لها القدرة على معالجة فئران التجارب من جرعة البكتيريا القاتلة التي حقنت بها. قد يتعجب البعض عندما يعلم بأن اكتشاف الأدوية الكيميائية المضادة للبكتيريا يرتبط تاريخها بشخص آخر غير المكتشف البريطاني الأسطورة ألكسندر فلمنج مكتشف عقار البنسلين، لكن الأمر الذي لا يقل غرابة أن اكتشاف العالم الألماني دوماك تم نتيجة تجارب طويلة واستمرارية في البحث حتى في الإجازة بينما الكسندر فلمنج Fleming لم يكن سيكتب له اكتشافه الأسطوري لو لم يأخذ اجازته الصيفية لعام 1928 ويترك بشكل مهمل بعض أطباق نمو البكتيريا petri dish على طاولة البحث ثم بعد  تلك الإجازة حصلت قصة الاكتشاف البالغة الشهرة.

وعلى ذكر الصبغات الكيميائية التي بعضها دواء قاتل للميكروبات، تجدر الاشارة إلى أن فجر الصناعات البتروكيميائية أشرق في تاريخ مميز عام 1856 عندما قام الشاب البريطاني هنري بيركن Perkin بمحاولة تصنيع دواء الكينين لعلاج مرض الملاريا من مواد كيميائية أولية مستخلصة من القطران. في إجازة عيد الفصح (عيد القيامة أحد أهم الأعياد المسيحية) من تلك السنة كان الشاب بيركن ما زال يحاول وبطرق مختلفة اكتشاف الطريقة الكيميائية لتصنيع ذلك الدواء، وفي إحدى التجارب أنتج مادة سوداء بشعة وعندما أراد أن يزيلها من الدورق الذي كانت فيه أضاف لها حمض كيميائي مركز ولدهشته البالغة انتج ذلك التفاعل صبغة ذات لون أرجواني جميل كانت صبغة الموف mauve.

تجارب علمية .. حتى في إجازة شهر العسل

حالة الهوس المفرط بالعلم والاستغراق في البحث العلمي قد تلازم بعض العلماء حتى أثناء قضاء إجازة شهر العسل. ومما يذكر في هذا الشأن أن عالم الفيزياء الانجليزي جيمس جول Joule  (الذي أطلق اسمه من باب التكريم على وحدة قياس الطاقة) نجد أن هوسه بالعلم يدفعه لاصطحاب زوجته و هي بعد في شهر العسل و يتجه بها إلى إحدى شلالات جبال الألب السويسرية حاملاً معه ثرموميتر طويل ( كما وصفه العالم كالفن  الذي شاهد الحادثة) لقياس كمية الطاقة (الحرارة) التي تكتسبها المياه نتيجة لسقوطها من أعلى الشلال إلى أسفله. وأما العالم الدنماركي نيلز بوهر Niels Bohr صاحب نموذج تركيب الذرة والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1922، فبالرغم من أنه سبق وأن قام بتأجيل شهر عسل زواجه حتى يكتب ورقة علمية عن تركيب الذرة ومع ذلك عندما سافرا أخيراً لقضاء إجازة شهر العسل قام بكل صفاقة بتكليف عروسه الجديدة بمساعدته في كتابة بحثه العلمي الجديد حيث كان يملي وزوجته تكتب له.

وهذا عالم الأحياء الدقيقة الأمريكي ألبرت شهاتز Schatz الذي تم على يديه العمل الفعلي في اكتشاف عقار streptomycin المضاد الحيوي لعلاج مرض السل، وافقت فترة زواجه انغماسه المتواصل في فصل وعزل وتجميع البكتيريا الخاصة بإفراز هذا المضاد الحيوي. ولهذا نجده يقوم أثناء فترة شهر العسل بأخذ بعض أنابيب الاختبار الزجاجية المغطاة بقطع من القطن والتي تحتوي على المستعمرات البكتيرية التي تفرز هذا العقار وذلك لكي يقوم بالمزيد من الرصد والمتابعة لتجاربه العلمية التي لا تحتمل التأخير والتأجيل. ومن أغرب الترتيبات والتجهيزات لقضاء إجازة شهر عسل ما حصل في منتصف القرن التاسع عشر مع مؤسس علم الجيولوجيا العالم البريطاني الشهير تشارلز ليل Lyell الذي تزوج من فتاة كانت أيضاً من هواة علم الجيولوجيا ولهذا نجد أن هذين العروسين أثناء تجهيزهما لرحلة شهر العسل يرتبانها وكأنها رحلة علمية إلى حقل جيولوجي بدلاً من أن يسفران لمكان أكثر رومانسية.

إجازة شهر العسل في مواقع الحفريات والأتربة كانت أيضاً من نصيب العالم البريطاني وليام بوكلاند Buckland أحد أبرز رواد علم المستحاثات paleontology وعلماء الجيولوجيا في القرن التاسع عشر، فقد تعلق قلبه بامرأة كان لها نفس اهتماماته العلمية حيث تزوج من سيدة تهتم بجمع بقايا الحيوانات الأحفورية بالإضافة لمهارتها العالية في رسمها. ومن هذا ليس بالمستغرب أن نعلم هذين الزوجين قضيا شهر العسل في جولة على البلدان الأوروبية حرصا خلالها أن يزورا أشهر المواقع الجيولوجية وزيارة مشاهير علماء الجيولوجيا. واستغلال رحلات وإجازة شهر العسل لمقابلة والتعرف على مشاهير العلماء حصلت كذلك مع عالم الكيمياء البريطاني الشهير همفري ديفي Davy الذي قام هو الآخر برحلة لشهر العسل إلى القارة الأوروبية كانت مخصصة بالكامل لزيارة مشاهير العلماء والباحثين واصطحب معه فيها مساعده (وفي نظر زوجته أنه كان خادمه) العالم البريطاني البارز مايكل فاراداي.

وفي الختام وعلى ذكر التخطيط لقضاء الإجازات من خلال الرحلات العلمية كان أحد أكثر الكتب العلمية تميزاً الذي قرأته قبل عدة سنوات هو كتاب أشبه بدليل سياحي علمي عنوانه (أطلس المهووس العلمي Geek Atlas . والكتاب أشبه بمرشد سياحي يعطيك معلومات إرشادية عن الموقع الجغرافي والخدمات السياحية عن أبرز المناطق ذات العلاقة بالعلم والتكنولوجيا مثل المختبرات التي حصلت فيها اكتشافات علمية مميزة أو عن المتاحف العلمية أو حتى منازل وقبور مشاهير العلماء والمخترعين. ولا أكشف سراً عندما أقول أنني أحيانا (أستعين بصديق) هو هذا الكتاب عندما أسافر لدولة ما للتأكد هل بها (معلم سياحي علمي) جدير بالزيارة والمشاهدة.                           

بريد الكاتب الالكتروني: ahalgamdy@gmail.com