للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

المتاجرة بالعلم

  • د/ أحمد بن حامد الغامدي

    جامعة الملك سعود – الرياض- المملكة العربية السعودية

  • ما تقييمك؟

    • ( 5 / 5 )

  • الوقت

    02:00 م

  • تاريخ النشر

    01 أغسطس 2021

الكلمات المفتاحية :

العلم كمنتج بشري ليس منزه بالمطلق عن الخلل. وربما يقع التناقض في العلم فيما يخص الأفكار والاستنتاجات العلمية، وكذلك قد يقع التناقض في مسيرة العلم وتطوره عبر الزمن. من صور التناقض في التسلسل التاريخي للعلم أنه قبل عقود قليلة مضت كان العلماء والراصدين لتاريخ العلم يجزمون أن مستقبل العلم سوف يرتبط بما يسمى (العلوم الكبيرة Big Sciences). والمقصود أن ما تبقى من المجالات العلمية الكبرى قيد الدراسة وخصوصا في مجال علوم الفضاء والعلوم الذرية ومشروع الجينوم (الخريطة الوراثية البشرية) تحتاج لمجهود علمي فائق يستلزم صرف ميزانيات ضخمة جدا وتعاون عدد غفير من العلماء المتخصصين من جنسيات متعددة. أي أن المصاريف المالية والجهود العلمية لتنفيذ هذه الأبحاث المتقدمة في (العلوم الكبرى) هي خارج نطاق قدرات دولة بحد ذاتها ولا بد من تجمع الدول والمؤسسات البحثية الكبرى. خذ على سبيل المثال، الأبحاث العلمية في مجال فيزياء الجسيمات الأولية والتي تقوم بها CERN المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية.

إن أهم وأغلى تجربة في التاريخ هي تلك التي ينفذها مركز سيرن في مجال الفيزياء النووية وهو مشروع مصادم الهادرونات الكبير LCH الذي كلف حوالي 10 مليار دولار واشترك فيه عدة آلاف من العلماء من حوالي 100 دولة. وقل مثل ذلك عن الأبحاث المتطورة التي تقوم بها وكالة الفضاء الأوروبية التي تشترك بها وتمول أبحاثها 22 دولة، أو وكالة الفضاء الأمريكية ناسا التي تبلغ ميزانيتها السنوية أكثر من 22 بليون دولار.

من منظور ما سبق كان يفترض أن أبرز الاكتشافات العلمية الحديثة وأهم الاختراعات التقنية المتطورة تكون من نتاج ومخرجات هذه المشاريع العلمية (الكبرى) متعددة الجنسيات والعابرة للقارات. وبما أن سيرة اكتشاف الفضاء انفتحت، فمن الغريب أن أكبر صاروخ تم تصنيعه في تاريخ البشرية ليس صاروخ وكالة ناسا (ساتورن 5) الذي أوصل الأمريكان للقمر ولا (بروتون M) عملاق صواريخ الفضاء السوفيتية ولا صاروخ وكالة الفضاء الأوروبية (آريان 6) ولكن هو الصاروخ (فالكون 9) من إنتاج (شركة تجارية) حديثة نسبيا تحمل اسم Space X والتي أنشأها رجل الأعمال الكندي المشهور إيلون ماسك. في مطلع عام 2020م أعلنت إحدى شركات إيلون ماسك الفضائية عن تخطيطها لإطلاق مركبة فضاء تحمل رجال عاديين (وليس رواد فضاء) وذلك في أواخر هذه السنة 2021. ويبدو أن (سباق غزو الفضاء) تحول من الدول الكبرى إلى التنافس بين رجال الأعمال وأصحاب المليارات لكسب سوق رحلات الفضاء السياحية. ولهذا لا غرابة أن تم بالفعل في الأيام القليلة الماضية تنفيذ رحلات فضاء كان رواد الفضاء فيها هم أكبر وأشهر رجال الأعمال الدوليين من مثل الأمريكي جيف بيزوس صاحب شركة أمازون وأغنى رجل في العالم، وكذلك الملياردير البريطاني المعروف ريتشارد برانسون صاحب شركة فيرجن.

ليس من المعلوم حتى الآن هل سوف يقتدى إيلون ماسك ثاني أغني رجل في العالم بمن سبقه من رجال الأعمال ويشارك بنفسه في أول رحلة فضاء لشركته التقنية الخاصة (عبر مركبتها الفضائية: سفينة النجم) بعد أن قام عام 2018م بإرسال واحدة من سياراته الكهربائية (تيسلا رودستر) إلى الفضاء في منظر مهيب سوف تخلده الذاكرة البشرية لفترة طويلة. لكن من شبه المؤكد أن إيلون ماسك سوف يستمر في منافسة ومزاحمة وكالات الفضاء الأمريكية والأوروبية في تحقيق الحلم الكبير بإرسال أول إنسان إلى كوكب المريخ. ولو تحقق هذا الأمر وبالفعل واستطاعت الشركات التجارية الخاصة التغلب على المؤسسات والمراكز البحثية (الكبرى) الدولية فإن مسيرة العلم تحولت من ظاهرة (العلوم الكبرى Big Sciences)  إلى ظاهرة (خصخصة العلوم Science Privatization).

من الأبحاث العلمية المحورية التي تحولت من مجال العلوم الكبرى إلى مجال خصخصة العلوم، نجد أنه في مطلع التسعينيات من القرن الماضي تم الإعلان عن المشروع العلمي البالغ الأهمية والمتعلق بتحديد الخريطة الجينية البشرية. في بداية الأمر استلزم (مشروع الجينوم البشري) تضافر جهود العلماء من جميع أنحاء العالم وخصص له عبر السنين ميزانية مالية زادت عن ثلاثة بلايين دولار. ثم بعد ذلك حدثت المفاجأة الكبرى عندما نجحت (شركة تجارية) واحدة هي Celera Genomics بميزانية محدودة لا تزيد عن 300 مليون دولار، نجحت في أن تسبق جهود المؤسسات والمراكز البحثية الدولية الضخمة في تحقيق نشر مسودة الخريطة الجينية البشرية وذلك في صيف عام 2000 ميلادي.

وفي موضوع ذي صلة ومع مشروع آخر هائل من (العلوم الكبرى) والمتعلق بالجهود العلمية الحائرة منذ عقود طويلة في إنجاز حلم علماء الفيزياء وأهل الاقتصاد بإنتاج الطاقة الكهربائية من خلال ما يسمى مفاعلات الاندماج النووي الهيدروجيني.  منذ عام 2007م يقام في جنوب فرنسا بناء مشروع (المفاعل النووي الحراري الدولي) ITER والذي يهدف لبناء أكبر مفاعل اندماج في العالم ويشترك في هذا المشروع الضخم حوالي 35 دولة وبميزانية خرافية تبلغ حوالي 16 مليار دولار. شركة Celera Genomics التجارية الأمريكية السابقة الذكر عندما فكرت بطريقة علمية غير تقليدية استطاعت اختصار الزمن بشكل هائل فيما يتعلق بمشروع الجينوم البشري. وعلى نفس النسق يتوقع بعض الخبراء أن تنجح الشركة التجارية الكندية General Fusion التي يدعمها الملياردير الأمريكي سابق الذكر جيف بيزوس في تحقيق إنجاز إنتاج الطاقة الكهربائية من مفاعلات الاندماج النووي الهيدروجيني في وقت أسرع من مشروع ITER بالرغم من أن رأسمال تلك الشركة التجارية التقنية لا يزيد عن 300 مليون دولار، ولكنها تمتك أفكار علمية إبداعية وفعّالة.

من هذا وذاك تتشكل مسيرة العلم والتقنية في المستقبل، وأن الرواد في مجال تطوير العلوم وحتى الأبحاث الطبية هي في الغالب الشركات التجارية والهيئات التقنية الربحية، في حين من المحتمل أن يتراجع بشكل تدريجي دور وإسهام مراكز الأبحاث في الجامعات والمؤسسات العلمية الدولية. من جانب قد يكون هذا الأمر مفيد من منظور أن حيوية القطاع الخاص وكفاءته العالية واستقلاليته سوف يساعد كما شاهدنا في تقدم هائل ومذهل في مسيرة العلم والتقنية. ولكن في المقابل يوجد قلق مشروع وتحفظ مبرر من أن استفراد رجال الأعمال والتجار بالاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية سوف يتسبب بشكل أو بآخر في استغلال البشرية لمصالح مادية رأسمالية متوحشة مشهورة ومتكررة في سلوك أصحاب الأموال. من صور الرأسمالية البغيضة و(المتاجرة) ليس فقط بالعلم وإنما بالبشر نجد أن شركة سيليرا Celera التي ساهمت في تسريع مشروع الجينوم البشري كما أشرنا له سابقا، طالبت أن تحصل على براءة اختراع على بعض الجينات البشرية ذات الأهمية الطبية. كما أنها حاولت في البداية الاحتفاظ بجزء من المعلومات والبيانات الوراثية التي توصلت لها لاستغلالها بشكل تجاري. ومن هنا ظهر جدال عنيف حول من له الأحقية في الادعاء بأنه يملك حق احتكار معلومات الجين البشري أو هل يقبل أن تصبح الشفرة الوراثية DNA كأي سلعة تجارية يصدر لها براءة اختراع؟. وهذا يقود للمخاوف من خطورة (المتاجرة بالعلم) بأن لا تتورع بعض الشركات التجارية البحتة التي تهدف للربح وعوائد الاستثمار أن تكسر القواعد الأخلاقية في الأبحاث الطبية وكذلك الأبحاث المثيرة للجدل مثل استنساخ البشر والأغذية المعدلة وراثيا.

وبالرغم من كل هذا القلق حول دور الشركات التجارية في مسيرة العلوم إلا أنه يجب ألا نغفل أن لعدد كبير منها دور حاسم جدا في إحداث ثورات عديدة ومتواصلة في تاريخ العلم. الأهم من ذلك أن العديد من جوائز نوبل التي تم منحها لاكتشافات علمية حصلت في مختبرات الشركات التجارية المهتمة بالعلوم، ومن ذلك مثلا أن شركة دو بونت الأمريكية وعملاق صناعة الكيماويات نال اثنان من العاملين في مختبراتها على جوائز نوبل في الكيمياء وهم بول فلوري عام 1974م وتشارلز بيدرسن عام 1987م، هذا بالإضافة أنه في مختبرات هذه الشركة تم اختراع مادة التفلون عديمة الالتصاق وألياف النايلون الحريرية أو ألياف الكيفلار المضادة لطلقات الرصاص. وفي مجال علم الفيزياء تمكن ثلاثة من علماء شركة مختبرات بيل Bell Labs المرموقة ليس فقط من اختراع الترانزستور، ولكن أيضا استحقاق الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1956 ميلادي.

العلم من رعاية الملوك إلى رعاية التجار

من توابع ونتائج الظاهرة الحديثة في تاريخ مسيرة العلم والمتعلقة (بخصخصة العلوم) حصول نقطة التغير التاريخية من خلال تحول دور الداعم والراعي patron والممول للعلم والعلماء من الملوك والأباطرة إلى التجار ورجال الأعمال. المستعرض لكتب تاريخ العلم وأخبار العلماء تتردد عليه العديد من الأسماء السياسية البارزة التي احتضنت العلماء ورعتهم من مثل الخليفة العباسي المأمون والخليفة الأندلسي عبد الرحمن الثالث والسلطان التركي محمود الغزنوي والسلطان السلجوقي جلال الدين ملك شاه والسلطان المغولي المسلم أولغ بيك. وكما هو معلوم تأثر ملك صقلية روجر الثاني كثيرا بالحضارة العربية وقد كان هو راعي العالم العربي الكبير الإدريسي، وكذلك كان على نفس النسق الإمبراطور الألماني فردريك الثاني الذي كان هو الآخر عاشقاً للحضارة العربية وراعي للعلوم. ومن أشهر ملوك وأباطرة أوروبا الذين سلكوا هذا المسلك في كفالة وتمويل العلوم الملك الأسباني ألفونسو العاشر والإمبراطور النمساوي رودولف الثاني والإمبراطور الروسي بطرس الكبير والإمبراطور الفرنسي لويس الرابع عشر والملك الإنجليزي تشارلز الثاني بينما يقف الإمبراطور والقائد الفرنسي نابليون بونابارت في مكانة خاصة وفريدة في هذا الشأن، فعدد ملحوظ من وزرائه هم في الأصل من كبار علماء فرنسا.

في العصر الحديث أصبح الدور الريادي في رعاية العلم والعلماء منوط بشكل متزايد للدعم المالي السخي من رجال الأعمال والأثرياء، بل إن بعض أهم الاكتشافات العلمية ساهم فيها رجال الأعمال وبدوافع إنسانية وذلك من خلال مؤسساتهم الخيرية وغير الربحية. فمثلا إمبراطور صناعة الحديد والصلب رجل الأعمال الأمريكي البارز أندرو كارنجي كان هو من موّل من خلال مؤسسته الخيرية أبحاث اكتشاف هرمون الأنسولين لعلاج مرض السكر وتحقيق جائزة نوبل في الطب لعام 1923 ميلادي. في حين أن الثري الأمريكي المشهور جون روكفلر ساهم من خلال مؤسسته الخيرية في تمويل الأبحاث المتعلقة باكتشاف تركيب جزئي DNA والأحماض النووية وتحقيق جائزة نوبل في الطب لعام 1962 ميلادي.

عبر القرن الماضي وحتى الآن ساهم المئات من كبار رجال الأعمال وفي جميع الدول بدعم الأبحاث العلمية وخصوصا في المجال الطبي، مما ساهم في إنجاز العديد من الاكتشافات العلمية الكبرى وتحقيق جوائز نوبل. يكفي أن نشير إلى أنه قبل عدة سنوات أتفق ثلاثة من أباطرة رجال الأعمال في أمريكا (وهم بيل غيتس ووارن بافيت وجورج سورس) على أن يتبرع كلا منهم بمبلغ يزيد عن ثلاثين بليون دولار لصالح الأعمال الخيرة وبالذات في مجال دعم الأبحاث الطبية. وبالرغم من كل ما يثار من لغط حول الملياردير الأمريكي بيل غيتس، فالحق يقال إن مؤسسة بيل غيتس الخيرية بلغ مجموع تبرعاتها المخصصة لمكافحة وباء كورونا حوالي 1750 مليون دولار وفي نفس المسار تبرع رجل الأعمال وعملاق صناعة السفن الأمريكي دانيال لودفيغ بمبلغ 2500 مليون دولار لأبحاث السرطان.

 الغريب في الأمر أن التبرع بمثل هذه المبالغ المالية الضخمة ليس مقصوراً على الأبحاث الطبية التي تجد تعاطف متوقع، ولكن نجد أن بعض رجال الأعمال لديهم هوس بالعلوم البحتة كما هو حال رجال الأعمال الأمريكي جورج ميتشل الذي تبرع بمبلغ 360 مليون دولار لبناء مرصد فلكي متطور جدا مخصص لأبحاث الفضاء بينما مجال أعمال جورج ميتشل تحت الأرض في التنقيب عن الغاز والبترول.

الملياردير جورج ميتشل نموذج ومثال للمئات من رجال الأعمال عبر التاريخ ومن كل الشعوب الذين أنفقوا مئات، بل وحتى آلاف الملايين من الدولارات في مشاريع بحثية ليس لها أي صلة بمجال تجارتهم ولا ينتظرون من ذلك أي فائدة استثمارية مباشرة. ولهذا تتغير التسمية لمثل هؤلاء التجار عبر الزمن فهم في بداية شبابهم يعرفون بلقب (رواد الأعمال entrepreneur) وفي منتصف حياتهم المهنية هم (رجال الأعمال businessmen) بينما في أواخر حياتهم أحيانا يطلق عليهم لقب (السخي المحسن philanthropist). بكل الصدق والمصارحة الصورة النمطية عن التجار ورجال الأعمال سيئة، ولكن من يبدأ منهم حياته بالتحايل والجشع ثم يختمها بالبر والإحسان يصدق عليه الوصف الشعبي بأنه (النّهاب الوهّاب !!).

 


تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com


 


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

    

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

مواضيع ذات علاقة

2 التعليقات

  • شنة قويدر08 أغسطس, 202107:42 م

    نحو إيجاد مصطلح علمي للعلم

    نحو إيجاد مصطلح علمي للعلم من المعروف بداهة أن العلم يرفع أقواما و يضع أخرين ،إن من الأزمات الموجودة بالفعل في كيان أمتنا الإسلامية هو قضية التجارة بالعلم، نحن لدينا أمثلة حقيقة مؤلمة وكثيرة جدًّا تمثّل ظاهرة وليس مجرد حالات. والحقيقة أن العلاقة بين التجارة والعلم في حياة المسلمين تعكس -عبر القرون- صميم الاتصال بين شؤون الحياة وتعاليم الإسلام، حيث تداخلت خطوط التجارة مع حركة الدعوة ورحلات طلب العلم ولو كان الجميع في الصين؛ ففي كل قافلة بضاعة وتاجر وعالِم ومتعلّم وكتاب، في مركب حضاري بهيج، يكمّل بعضُه بعضا دون انفصام أو تضارب ومَن لم يلتفت بشكل معمق لفلسفة الاتصال تلك فلن ينجح في فهم الإسلام الذي أقام هذا التوازن الشديد بين المادة والروح، فضلا عن حساسية الاستقلال التي كانت تضرب في عمق عند علماء المسلمين، الذين كانوا يتحسسون تجاه كل ما يمسّ استقلالهم في التكفير والتعبير والرأي والاستنباط، وكل ما يمكن أن يمسّ بأمانتهم أمام الله وكذلك مكانتهم أمام الناس، وكانت وفرة المال من ضمانات استقلالية جماعة العلماء واستمرارية الدعم الذاتي للحركة العلمية ومن ناحية أخرى؛ ليس بإمكان كلّ المشتغلين بالعلم أن يتعاطوا صنائع أخرى، لأنها وإن كفلت للعالم نزْراً ولو يسيرا من قوت يومه وصيانة علمه، وحفظا لماء وجهه إلا أنها شاغلة له عن التحصيل والرحلة التي هي أهم سبل تحصيل العلم في تلك الزمان، ومعطلة له عن أوراده، وكابحة عن الانكباب على التصنيف والتأليف. ومن هنا؛ نظر الفقهاءُ إلى بيت مال المسلمين باعتباره ملكاً للأمّة لا للدولةِ، وأوجبوا على الحكام توفير العيش الكريم للعلماء ليتفرغوا للعلم دراسة وتدريسا، فإذا لم تقم الدولةُ بواجبها تجاههم وجب ذلك على عامّة الشعب وجوبا كفائياً ولذلك نجد الخطيب البغدادي يعقد -في ‘كتاب الفقيه والمتفقه‘- بابا سماه: "باب ذكر ما يلزم الإمام أن يفرض للفقهاء ومن نصَّب نفسه للفتوى من الرزق والعطاء"؛ فيقول فيه: "وعلى الإمام أن يفرض لمن نصَّب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكامِ ما يُغنيه عن الاحتراف والتكسب، ويجعلَ ذلك في بيت مال المسلمين. فإن لم يكن هناك بيتُ مالٍ، أو لم يَفْرِضِ الإمامُ للمفتي شيئا، واجتمعَ أهل بلدٍ على أن يجعلوا له من أموالهم رزقاً -ليتفرغ لفتاويهم وجوابات نوازلهم- ساغَ ذلك" إن المجتمعات العربية مفتونـة بمنجـزات حداثـة لا تفكر في مضاهاة أي جزء من إنتاجها حتى إذا ما انـبرى بعـض الأفـراد لمحاولة فهم ما تغدقه الحداثة على مجـتمعهم وانخرطـوا في الطريق الموصلة إلى المشـاركة في الحركـة العلميـة العالميـة وجـدوا أنفسـهم منعـزلين في مواجهـة تلـك اللجـة العارمة لا تساندهم مجتمعاتهم في سعيهم لإخراجها مما أصابها من ركود بل يجدونها مسـتكينة تجرفها تيارات الحداثة وتستقطبها مراكزها العلمية المتميزة، وإن اللغة هي مفتاح الوصول إلى المعرفة ولـذا فهي تحتـل موقعـا تربطـه بمجتمعه وتحتوي على خلاصة خبرات وتراث كل مجتمع، فاللغـة ليسـت أداة للتعبـيرفحسب، إنما وسيلة التفكير بل هي خلاصة الفكر إلا أن انبثاق علوم جديــدة كالدراسات في دقائق تكوين المادة، أو دراسة الخلايا الجذعية، أوكل ما نـتج عـن اسـتثمار الطاقـة الذريـة وغيرها مـن البحوث الحديثة قـد أدى إلى تراكم معرفي يحتاج نقلـه إلى العربيـة مجهـودا لـى إنجازه. بل لابـد من مؤسسات متخصصة ترفد الطاقات الفردية الهزيلة الــتي تحار في مواجهة تيارات العولمة، ولكنها تُستثار وتَّنتفض لتتصدى لمحاولات تغليب اللغة العالمية على لغتها القومية، حيث هذا لا يعني أن اللغة العربية قد تعطلت وبدا عجزها عن مسايرة الركب العلمي العـالمي، إن نظرة كهذه تنتهي إلى إسقاط حق الجماهير العربية في التعـرف إلى مجريات الأمور في ميادين العلم حين يكون عرضها بلغتها الأم، منكـرة بـذلك مجهـودات التعريـب الـتي قامـت في العالم العربي طيلة القرن العشرين من أجل تسهيل الوصول إلى إدراك العلوم الحديثة واسـتيعاب منطلقاتها. إن ما ذكرناه من تقصير اللغة العربية في النصف الثاني من القـرن العشـرين عـن تعريـف القـارئ العربي بالتيارات الهامة المؤسسة لما يراه حوله من إنجازات تقنية وعلمية، هو تقصير يفسر لنا سـبب يسرته الحداثة. وأي تقصير أكبر من ذلك الـذي أفضى إلى عدم استفادة مجتمعاتنا إلا من فتات ما يسَّرته الحداث إن فجوة حضارية مستحكمة في مجالات العلوم والتقانت تفصلنا عـن العالم المتقدم. وهي فجوة آخذة في الاتساع ومعدل اتساعها يتناسـب مـع حجمها، ولـذلك فهي تزداد بقانون ِّ بفعـل وجود سرعتين لتطور العلـوم والتقانـة سـرعة عاليـة في الـدول المتقدمـة وسـرعة بطيئـة في الـدول النامية، ولذا فإن الفرق بين السرعتين هوحجم الفجوة، وقد تأكـد أن تلــك الفجــوة مرتبطة بشكل وثيق بمدى انتشار تعلم اللغات العالمية في مجتمعاتنا، ويبـدو أن العلاقة بين ما يشاهد من فـروق علميـة وتقنيـة في المجتمعات وبـين عمـق تعلمً اللغات فيها هي علاقة طردية فكلما أصبح الحضاري صغيرا كانـت الحاجـة إلى تعلـم اللغـات قليلة، ولذا فإن الوسيلة الوحيدة للسيطرة على ما نراه من اتساع الفجوة العلمية والتقنيـة بـين الغـرب وبيننا هي اللجـوء إلى حركـة واسـعة مـن الترجمـة والتعريـب يكـون أساسها وضع المصطلحات العلمية والتقنيـة المقابلـة لتلـك الـتي تغرقنا بها العولمة وهـذا يفـترض معرفـة عميقـة ودقيقـة بلغـات العلـم ذات الصفة العالمية. وبما أن المعرفة في العلم هي في الأصل معرفة بلغته أي بمصطلحاته فإن "الكتابة العلمية كتابة علائقية ًبين مضمون العلم وشكل العلم عموما أو بين مفاهيم العلم ومصطلحات العلم خصوصا ويكفي للدلالة على اتساع ظاهرة العلماء التجار أن الإمام الذهبي ترجم لنحو 150 عَلَمًا منهم في كتابه الجليل الحافل ‘سير أعلام النبلاء‘، وسنورد هنا نماذج ذات مكانة علمية بارزة -بعد عصر التابعين وتابعيهم- من مختلف التخصصات الشرعية ممن أورد هو تراجمهم، مع ألقابهم العلمية عنده، وما سجله بشأن حجم ثرواتهم، وتباعُد المسافات التي قطعوها في تجاراتهم، حتى إن بعضهم سار فيها من الأندلس إلى الصين!! فقد ترجم للمحدث الكبير يوسف بن زريق (ت 222هـ/837م) فقال إنه "ذهب إلى مصر في التجارة ومات بها". وذكر ابنَ عمار الموصلي (ت 242هـ/856م) فعرّفه بأنه "الإمام الحافظ الحجة محدث الموصل..، وكان يعالج التجارة فقدم بغداد مرات وحدَّث بها". وفي ترجمة الجمال بن محمد البغدادي (ت 346هـ/957م) قال إنه "الشيخ المُسْنِد الثقة مُحدِّث سمرقند (تقع اليوم بأوزبكستان)..، ارتحل [لتحصيل العلم] وكان يسافر في التجارة". ومن العلماء الذي جمعوا بين بسطة العلم واتساع الثروة دَعْلَجُ بن أحمد السِّجِسْتاني/السِّجْزي (ت 351هـ/964م) الذي يصفه الذهبي بأنه "المحدث الحُجَّة الفقيه الإمام.. التاجر ذو الأموال العظيمة..، سمع -بعد الثمانين (= سنة 280هـ/893م)- ما لا يوصف كثرةً بالحرمين والعراق وخراسان..، حال جَوَلانه في التجارة"، ومع انشغاله التجاري بلغ شأوا عظيما في العلم حتى نُعت بأنه "الفقيه شيخ أهل الحديث في عصره"! وكان الإمام الدارقطني (ت 385هـ/994م) يقول: "ما رأيتُ في مشايخنا أثبت من دعلج"!! ويحدثنا الذهبي عن حجم ثروة الإمام دعلج المتحصلة من تجارته؛ فيذكر أنه "قيل: لم يكن في الدنيا أيسر منه من التجار"! وأنه عندما تُوفي "خلّف ثلاثمئة ألف دينار (= اليوم 50 مليون دولار أميركي تقريبا)"، كانت أولَ ميراث تعتدي عليه السلطات البويهية في بغداد بالمصادرة! وبلغ به الحال أنه "كان يقول: ليس في الدنيا مثلُ داري! وذلك لأنه ليس في الدنيا مثلُ بغداد، ولا ببغداد مثل محلة القطيعة، ولا في القطيعة مثل درْب أبي خلف، وليس في الدرب مثل داري"!! وإضافة إلى هذه الدار العجيبة ببغداد؛ "اشترى دعلج بمكة دار العباسية بثلاثين ألف دينار"!! ولـن نصـل إلى الفهـم العلمـي الصـائب إلا عـن طريـق المصـطلح الـدقيق والمعـنى الواضـح، وهـذا يعني وجود حاجة ملحة إلى جهد مصطلحي متكامـل يحـيط بكـل دقـائق العلـوم المختلفـة، في لغتها الأصلية، من أجل الوصول إلى تنظيم لغوي ومصـطلحي ينتهـي إلى تأكيـد التـزاوج بـين اللغـة والفكـر عمومـاً. وهـذا التـزاوج هـو الـذي يسـمح بـإخراج العبـارة العلميـة في المسـتوى الفـني الـذي يرفـع كـل شــكل مــن أشــكال اللــبس والإغمــاض، بالاســتناد إلى تسلســل منطقــي ينــير الطريــق إلى الفهــم والاستيعاب

    رد على التعليق

    إرسال الغاء
  • د. محمد راغب03 أغسطس, 202106:02 ص

    د. احمد بن حامد الغامدي__المتاجرة بالعلم

    اشكر د. احمد على مقالتة المهمة ولكنني لا اخفي انطباعي الاول انه عندما قرات عنوان المقالة خلق لدي انطباع سيء بالنسبة الى العاملين في العلم وادواته. لكن وعندما استرسلت في قراءة المقالة تبين لي ان المقصود هو استثمار نتائج البحث العلمي بعد تطوير وتطويع هذة النتائج على شكل سلعة او جهاز يترتب علية تكوين ثروة هائلة للمستثمر ولا ارى اي عيب في ذلك الجديد في واقعنا الحالى ان العالم اصبح يشبه قرية صغيرة وان التواصل بين المجتمعات خلق هذا النوع الجديد في مال السوق العالمي والامثلة على ذلك كثيرة. واخيرا ارى انه من المفيد توجية دعوات لكثير من الاثرياء العرب والمسلمين لتشغيل جزء او كل من اموالهم في مجالات تطوير واستثمارنتائج البحوث العلمية بما يحقق لهم الارباح بالاضافة الى ترسيخ جذور المعرفة والانتاج في مجتمعاتنا التي هي في اشد الحاجة لمثل هذا المسار.

    رد على التعليق

    إرسال الغاء

أضف تعليقك

/* Whatsapp Share - 26-6-2023 */