للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

الغزو الروسي لأوكرانيا والأمن الغذائي العربي

  • عاصم أبو حطب

    أستاذ مشارك بقسم الاقتصاد، الجامعة السويدية للعلوم الزراعية، السويد

  • ما تقييمك؟

    • ( 5 / 5 )

  • الوقت

    11:12 م

  • تاريخ النشر

    16 مارس 2022

لم تكد سلاسل إمداد الغذاء في المنطقة العربية تبدأ في التعافي من تداعيات جائحة فيروس كورونا؛ حتى انحدرت في خضم أزمة جديدة فرضها الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير الماضي لتلقي بظلالها على الأمن الغذائي في العديد من الدول العربية، لا سيما مصر.

فالبلدان المتحاربان تربطهما شراكات اقتصادية قوية ومتشابكة بالعالم العربي؛ بل ويعدان شريكان تجاريان رئيسيان للكثير من الدول العربية فيما يتعلق بالسلع والمنتجات الزراعية والغذائية. فعلى سبيل المثال، استقبلت أسواق الدول العربية منتجات غذائية من كل من روسيا وأوركرانيا في 2020 بما تعادل قيمته حوالي 8.3 مليار دولار أمريكي، كما بلغ متوسط معدل نمو الصادرات الغذائية الروسية والأوكرانية إلى دول المنطقة حوالي 10% خلال السنوات التي سبقت جائحة كورونا من 2015 و2018.

وعلى الرغم من تعدد المسارات المباشرة وغير المباشرة التي من المتوقع أن تنتقل من خلالها تداعيات هذا الصراع الدائر بين الدولتين على الأمن الغذائي للدول العربية، كالنمو الاقتصادي والاستثمار والسياحة؛ إلا أنه ثمة محورين رئيسيين يهددان بإحداث تأثيرات مقلقة على الأمن الغذائي لدول المنطقة وهما محور الطاقة، ومحور محاصيل الحبوب. ففيما يتعلق بمحور الطاقة، فقد شهدت أسعار البترول في السوق العالمي ارتفاعات ملحوظة خلال الأشهر القليلة الماضية، في ظل عدم قدرة الانتاج على مواكبة الطلب المتزايد للاقتصاد العالمي، والذي كان في مراحل تعافيه الأولية من تأثيرات جائحة كورونا على النمو الاقتصادي وحركة التجارة العالمية. وما أن شرعت روسيا في شن حملتها العسكرية على أوكرانيا؛ إلا وقفزت أسعار النفط العالمية خلال ساعات وجيزة لتتخطى حاجز 100 دولار أمريكي للبرميل للمرة الأولى منذ عام 2014. ولم تكن الاستجابة السريعة لأسعار النفط بالأمر المفاجئ للمحللين الاقتصاديين؛ فروسيا تعد ثالث أكبر منتج وثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، بحصة سوقية تمثل واحدًا من كل 10 براميل نفط يتم استهلاكها عالميًا.

ومن المتوقع أن تشهد أسعار النفط العالمية مزيداً من تقلبات خلال الأسابيع القادمة؛ لا سيما مع قرب دخول العمليات العسكرية لأسبوعها الثالث، إلى جانب حزم العقوبات الاقتصادية والتجارية الحالية والمتوقعة من جانب حلف الناتو والمجتمع الدولي على روسيا، والتي قد تجبرها بشكل أو بآخر على تقليص إمداداتها النفطية للسوق العالمي؛ الأمر الذي سيؤدي بالتأكيد إلى المزيد من الارتفاعات في أسعار الطاقة العالمية، وزيادة رسوم الشحن البحري والبري للسلع الغذائية والزراعية. وبالنظر في الأدبيات الاقتصادية، نجد أن هناك علاقة ارتباطية قوية بين أسعار النفط وأسعار الغذاء؛ وبالتالي فإن ارتفاعات أسعار النفط تنتقل أصداؤها لأسواق السلع الزراعية والغذائية بمعدل أسرع مقارنة بأسواق السلع العالمية الأخرى. علاوة على ذلك، فإن روسيا تعتبر المنتج الأكبر عالمياً للغاز الطبيعي، والذي يعد مكوناً رئيسياً في صناعة الأسمدة. وفي حال حدوث خلل في إنتاج وصادرات الأسمدة؛ فستكون لذلك تداعيات على أسعار الغذاء العالمية في حال عدم قدرة المنتجين الزراعيين في الأسواق المستوردة على تحمل هذه الأسعار وتمريرها للمستهلكين، أو من خلال التأثير السلبي على جودة المحاصيل وإنتاجيتها في حال قام المنتجون بتغيير معدلات وجداول التسميد والمعاملات الزراعية الأخرى للإنتاج الزراعي.

وبينما تعتمد غالبية الدول العربية على الأسواق العالمية لتلبية أكثر من 50٪ من احتياجات سكانها الغذائية؛ فإن ارتفاع أسعار الطاقة سيؤدي إلى تفاقم الضغوط التضخمية التي تشهدها الاقتصادات العربية خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي ذي وصلت لمستويات قياسية على أساس سنوي في بعض الدول العربية كالسودان (150%)، ولبنان (85%)، وسوريا (37%). ونظراً للمساهمة الكبيرة للسلع الغذائية في سلة استهلاك الأسر العربية، والتي تقدر- على سبيل المثال- بحوالي 42٪ في الجزائر، 38% في مصر، فإن القوة الشرائية للأسر ذوات الدخول المنخفضة والمتوسطة ستتأثر بشكل حاد من تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا؛ مما سيفاقم مشكلات الأمن الغذائي والتغذوي لدول المنطقة، والتي يعاني 14% من سكانها من مشكلات نقص التغذية، وتتفاوت معدلاتها بشدة على مستوى الدول لتصل إلى حوالي 60% في الصومال، 45% في اليمن، و 38% في العراق.

وبالنسبة لمحور محاصيل الحبوب، فإنه إن كانت الارتفاعات الكائنة والمتوقعة في أسعار الطاقة تهدد الأمن الغذائي العربي من خلال التأثير على الأسعار العالمية للسلع الغذائية ومدخلات الإنتاج الزراعي؛ فإن تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية على الأسواق العالمية لمحاصيل الحبوب، وخصوصاً القمح، تشكل تهديدات للأمن الغذائي للدول العربية من خلال كفاية وإتاحة الإمدادات الغذائية من هذه المحاصيل إلى جانب أسعارها في الأسواق المحلية العربية. فتشكل صادرات كل من روسيا وأوكرانيا حوالي ثلث صادرات القمح العالمية، كما تهيمن الدولتين على صادرات سلع زراعية أخرى كزيت عباد الشمس (80%)، والذرة (20٪). وتشير بيانات البنك الدولي لعام 2020، أن واردات القمح شكلت حوالي 48% من جملة واردات الدول العربية مجتمعة من روسيا وأوكرانيا، بقيمة بلغت حوالي 4 مليار دولار أمريكي. فعلى سبيل المثال، تغطي صادرات القمح الأوكرانية وحدها حوالي نصف احتياجات لبنان، وحوالي 40% من احتياجات ليبيا، وحوالي 30% من احتياجات مصر، و 20% من واردات اليمن القمحية.

وقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى إغلاق الموانئ البحرية الأوكرانية التي يتم من خلالها تصدير حوالي 90% من صادراتها من محاصيل الحبوب. ومن ثم؛ فإن هناك مخاوف متزايدة من اشتداد حدة العمليات العسكرية واستطالة أمدها مما سينتج عنه نقص كبير في إمدادات القمح وإتاحة محاصيل الحبوب في الأسواق العربية، وهذا ما سيحفز المزيد من الارتفاعات في أسعار السلع الغذائية. وقد ارتفعت أسعار القمح بالفعل خلال الأسابيع الماضية في البورصات العالمية بحوالي 40% وهو ما سيفاقم مشكلات الأمن الغذائي والتغذوي للمستهلكين في الدول العربية. وما يجعل المشهد أكثر قتامةً، أن جانباً كبيراً من العمليات العسكرية الروسية تدور رحاها بالقرب من الأقاليم الشرقية لأوكرانيا حيث التربة الأكثر خصوبةً والكثافة الأكبر لحقول ومزارع الحبوب الأوكرانية. وبالتزامن مع ذلك، فإن ما يمكن أن يجعل التوقعات المتعلقة بتوافر إمدادات وأسعار محاصيل الحبوب أكثر تشاؤماً؛ أن الغزو الروسي يأتي في وقت تتزايد فيه معدلات الجفاف بسبب الظروف المناخية المتقلبة في العديد من الدول المصدرة للحبوب والسلع الزراعية كدول أمريكا الجنوبية، إلى جانب ارتفاع الطلب على هذه المنتجات في الأسواق كالصين والهند.

إن تجارب الماضي القريب في منطقتنا العربية تخبرنا بأن هناك علاقة وطيدة بين ارتفاع أسعار الغذاء وتذبذب إمداداته من ناحية، وبين اشتعال الاضطرابات الاجتماعية من ناحية أخرى، والتي قد تهدد النمو الاقتصادي وتزعزع استقرار الحكومات والنظم السياسية. ولا تزال أحداث الربيع العربي، الذي أكمل عقده الأول منذ قرابة عام، عالقة في الأذهان لتخبرنا بعاقبة التهاون في التعامل مع تضخم أسعار الغذاء وتراجع مؤشرات الأمن الغذائي، وما يمكن أن ينتج عن تفاعلهما مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى من انعكاسات على السلم الاجتماعى والاستقرار السياسى.

ختاماً، إن المستويات المتدنية للاكتفاء الذاتي الغذائي للدول العربية والاعتماد الكبير لأغلبها على الأسواق العالمية في تلبية الاحتياجات الغذائية لسكانها كلها عوامل تحذر من الاستخفاف بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا والتباطؤ في اتخاذ التدابير والإجراءات التي تخفف من تأثيراتها على أسعار الغذاء والأمن الغذائي، لا سيما الطبقات الفقيرة وذوي الدخول المحدودة. فكون روسيا وأوكرانيا تشكلان معاً أحد المصادر الرئيسية لإمدادات الغذاء لدول المنطقة ينذر بسيناريوهات مقلقة للأمن الغذائي في المدى القصير، وربما بانعكاسات قد تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي، سيتحدد حجمها وعمقها وفقاً للمدة الزمنية التي ستستمر فيها الحرب وتتأثر خلالها سلاسل الإمداد الغذائي العالمية، فضلاً عن نوعية وحجم العقوبات التجارية والمالية التي سيفرضها المجتمع الدولي على روسيا.

 

تواصل مع الكاتب: assem.abu-hatab@nai.uu.se

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

     

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

مواضيع ذات علاقة

0 التعليقات

أضف تعليقك

/* Whatsapp Share - 26-6-2023 */