للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

كيميائي في معسكر الإبادة النازي

  • د/ أحمد بن حامد الغامدي

    جامعة الملك سعود - المملكة العربية السعودية

  • ما تقييمك؟

    • ( 5 / 5 )

  • الوقت

    10:28 ص

  • تاريخ النشر

    17 أغسطس 2023

مهنيًا، أنا أحترف العمل في مجال علم الكيمياء، وأنا هذه الأيام في زيارة سياحية لدول أوروبا الشرقية مع بعض الزملاء. وربما يعتبر معسكر "أوشفيتز" (Auschwitz) في بولندا من أهم المعالم التي يمكن زيارتها  والذي كان من أبرز معسكرات الاعتقال النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية. والهدف من عنوان المقالة، الإشارة إلى الترابط بين العلم ومعسكرات الاعتقال والتعذيب والإبادة، ممثلًا في قصة عالم الكيمياء اليهودي والأديب الإيطالي الجنسية "بريمو ليفي".

منظمة المجتمع العلمي العربي
 
 

صحيحٌ أنّ اليهود قد بالغوا في "قضية الهولوكوست" ومحارق الغاز النازية، ولكن هذا لا يعني أنّ كل ما ذُكِر عن هذه الجريمة كان مفبركًا ومبالغًا فيه. وعلى مستوى دوائر الفكر والثقافة الغربية يعتبر الكيميائي بريمو ليفي أديبًا وشاعرًا وفيلسوفًا مشهورًا، خصوصا بشهادته عن معسكرات الاعتقال النازية. بينما على المستوى الشخصي استمتعت قبل سنوات بقراءة كتابه المعنون "الجدول الدوري" (The periodic Table) والذي مزج فيه باحترافية عالية بين العلم ممثّلًا في العناصر الكيمائية للجدول الدوري وبين الأدب والفكر والتاريخ.

في أوائل شبابه، شارك ليفي في حركة مقاومة الاحتلال النازي لشمال إيطاليا. وبعد أن اعتُقل في نهاية عام 1943 تمّ شحنه في قطارٍ مع المئات من اليهود، ونقلهم إلى معسكر "أوشفيتز" في بولندا. الجدير بالذكر أنه كان للكيمياء دور بارز في المحافظة على حياة ليفي داخل هذا المعتقل، حيث كان النازيون يبحثون بين المعتقلين عن الرجال الذين لهم أي خبرة كيميائية، لكي يستفيدوا منهم في العمل بالمختبرات الكيميائية في "قسم البلمرة" لشركة إنتاج المطاط الصناعي.

في الكتاب السابق الذكر (الجدول الدوري) يرد ذكر لمحات متفرقة من معاناة بريمو ليفي داخل معسكر الإبادة النازي. ولكن، بالنسبة لمئات الآلاف من القراء في المجتمع الغربي، فإنّ كتابه "إذا كان هذا رجلا" (If this a man) يبقى الشاهد على سجلّ ذكرياته التي صاغها في الكتاب. وتعدّ تلك المشاهدات والشهادات من أكثر الوثائق الأدبية أهمية عما جرى في معسكرات الاعتقال النازية، والتي طالت الآلاف من غير اليهود من شتى الأعراق الجنسية ومن مختلف الدول، بحسب وصف ليفي.

وفي نهاية الحرب العالمية الثانية قامت القوات الروسية بعد هزيمة الجيش الألماني النازي بتحرير بريمو ليفي، وعشرات الآلاف من المعتقلين في معسكر أوشفتيز. وفي مطلع عام 1945 غادر الكيميائي الإيطالي ليفي ذلك المعسكر، والذي حُرِق في أجوائه ما يزيد عن مليون ضحية. للأسف الشديد، تعدّ الكيمياء حاضرة بقوةٍ في هذا المعسكر مثل "غرف الغاز" التي كانت تُستخدَم لإعدام مئات الأشخاص في نفس اللحظة بواسطة غاز كيميائي يدعى "Zyklon B" والذي ساهم في اكتشافه لأوّل مرة عالم الكيمياء الألماني "فريتز هابر" الحاصل على جائزة نوبل عام 1918!

وفي نهاية عام 1941، قام الجنود والعلماء الألمان في معسكر أوشفتيز، ولعدة شهور بالبحث عن أنسب المركبات الكيميائية لعمليات الإعدام في غرف الغاز، وقاموا فعليًا بإجراء "تجارب علمية" لتحديد أفضل الظروف، لاستخدام تلك الغازات الكيميائية بكفاءة. ولم يكن استخدام الكيمياء يقتصر فقط على تصفية المعتقلين،  بل أيضًا التخلّص من الجثث بأسرع وأسهل طريقة. ولهذا، فبعد إعدام المئات دفعة واحدة في غرفة الغاز كانت تنقَل الجثث إلى "أفران الحرق" الصغيرة حيث يتم تحويل كل ثلاثة أو خمسة جثث إلى رماد ودخان من خلال عملية كيميائية غير متطورة، تتمثّل بكل بساطة في استخدام حطب أشجار الغابات البولندية المحيطة بمعسكر أوشفتيز. ومع وجود العديد من منشآت ومباني أفران الحرق (crematoria) كان بالإمكان حرق ألف جثة في اليوم الواحد!

معسكر إبادة أم مصنع كيميائي؟

ينبغي التنبيه إلى أنّ المعسكرات النازية والتي كانت تسمّى بـ "معسكرات الموت"، وإن كان من أهدافها الرئيسية تطبيق "الحل النهائي للمسألة اليهودية" من خلال خطة الإبادة الجماعية لليهود، وغيرهم من الطوائف وأسرى الحرب، إلا أنّ بعضها كانت في الواقع "مصانع كيميائية" تتبع بالذات للشركة الألمانية العملاقة "IG Farben". ولم يكن الهدف من الاعتقال إعدام المعتقلين  والتخلّص منهم، بل إنّ عشرات الآلاف منهم تم اعتقالهم لكي يصبحوا عمال بالسخرة في تلك المصانع الكيميائية وغيرها من الوحدات الصناعية المختلفة. وقد أثبتت العديد من الشهادات التاريخية أنه بعد وصول المعتقلين من اليهود، وغيرهم إلى ساحات معسكر أوشفيتز أو غيره من المعسكرات (كان للقوات النازية أربعة معسكرات أخرى منتشرة في وسط أوروبا)، يتمّ أولًا عزل النساء والأطفال، وجميع المرضى أو المصابين، وهؤلاء يتم إعدامهم خلال ساعات أو في مدة أقصاها ثلاثة أيام. أمّا من يتبقى من الرجال الأصحاء ومن ذوي الخبرة العلمية أو الصناعية أو الطبية من المعتقلين المدنيين ومن جنود أسرى الحرب فيتم الاحتفاظ بهم لفتراتٍ طويلة قد تصل لعدة سنوات داخل المعسكرات لاستخدامهم كعمال، وذلك بعد أن يختم على يد كلّ واحد منهم وشم يكتب عليه رقمه الخاص (كان الوشم على يد بريمو ليفي يحمل الرقم 174517).

يذكر الكيميائي المعتقل بريمو ليفي في كتابه سابق الذكر (إذا كان هذا رجلًا) أنهم عندما وصلوا معسكر أوشفيتز لأول مرة، شاهد على البوابة الكبيرة للمعسكر العبارة التالية المكتوبة باللغة الألمانية "Arbeit Macht Fert" أي "العمل يمنحك الحرية"، وهذا الشعار كان موجودًا في العديد من مراكز الاعتقال النازية في مختلف الدول الأوروبية. وهذا يعني أن تصفية وإعدام اليهود لم يكن الهدف الأساسي والوحيد لتلك المعسكرات، وأنها بالفعل استخدِمَت في جزءٍ منها لدعم المجهود الحربي، من خلال استخدامها كمصانع وورش لإنتاج الذخيرة الحربية. لدرجة أن بعض الكهوف الضخمة مثل في دولة التشيك استخدمها النازيون لتصنيع الطائرات، أمّا في فنلندا فقد حوّلوا معسكرات الاعتقال إلى أماكن لتطوير الصواريخ.

وبالعودة لقصة الكيمياء ومعسكر الإبادة نجد أنه في كتاب "الجدول الدوري" المميز في مجال الثقافة العلمية، استرجع بريمو ليفي عند الحديث عن العنصر الكيميائي "السيزيوم" ذكرياته في العمل في "المختبر العلمي" في معسكر أوشفيتز، وكيف أنه استطاع أن يأخذ نوعًا من القضبان المعدنية الصغيرة (أخذ كذلك مادة الجلسرين وبعض الأحماض الدهنية) وكيف أنه استنتج أنها نوعٌ لسبيكة عنصر السيريوم مع الحديد. واستعرض ليفي كيف كان يقوم بتقطيع تلك القضبان من سبيكة الحديد مع السيريوم، إلى أحجامٍ صغيرة يبيعها لبقية المعتقلين، مقابل بعض قطع من الخبز  حيث كانوا يستخدمونها كولاعة سجائر، لأنه عند حكّها بقطعة صلبة من الحديد تعطي شرر أصفر كثيف.

لقد تمّ بناء معسكر أوشفيتز على عدة مراحل، وما يهمنا في قصة الكيميائي اليهودي بريمو ليفي هو الفرع الثالث من هذا المعسكر، والذي يُعرف بأكثر من اسم منها تسميته بمعسكر "بونا" (Buna)، أو معسكر "IG-Auschwitz". وسبب هذه التسميات، وارتباطها الوثيق بعلم الكيمياء، يرجع إلى أنّ عملاق الصناعات الألمانية الشركة الكيميائية "IG Farben" قامت بالتكفّل بتمويل وتشييد وتشغيل ذلك المعسكر الثالث، لكي يُستخدَم في تصنيع مواد كيميائية مهمة في المجهود الحربي، مثل نوع خاص من المطاط الصناعي يسمى بونا (Buna).

ولهذا يرد بشكلٍ متكررٍ في ثنايا كتاب مذكرات بريمو ليفي (إذا كان هذا رجلًا) ليس فقط أسماء المركّبات والعناصر الكيميائية، ولكن أيضًا الإشارة إلى أنّ معسكر أوشفيتز الثالث كان يحتوي على مخازن وأقسام ومبانٍ تحمل أسماء مركبات كيميائية. فمثلًا كان معسكر (IG-Auschwitz)، ومصنع المطاط "بونا" يحتوي على مبنى يسمّى مستودع مركب "كلوريد الماغنيسيوم"، ويحتوي على مبنى آخر يُدعى قسم البلمرة (polymerization Department)، ومبنى تصنيع كحول "الميثانول". كما يوجد مدخنة كبيرة في وسط المصنع أطلِق عليها اسم "برج الكربيد" (The carbide Tower)، والكربيد هو نوعٌ من المركبات الكيميائية، يحتوي على عنصر الكربون المرتبط بعنصر معدني. وقد سمّى ليفي في كتابه "برج الكربيد" ذاك باسم "برج بابل". والمقصود من هذه التسمية، أنه كما ورد في التوراة، أنّ شعوبًا مختلفة الأعراق واللغات اجتمعت لمحاولة بناء "برج بابل"، فكذلك الآلاف من البشر من مختلف  الأعراق واللغات تم اعتقالهم في معسكر أوشفيتز، والذي في وسطه ذلك البرج الكيميائي.

والجدير بالذكر، أنّ معسكر أوشيفتز الثالث (المعسكر الكيميائي) قد تعرّض لقصفٍ مكثف ومدمر من قبل طائرات دول الحلفاء، بهدف تخريبه وتعطيله عن خدمة الجيش النازي. ولهذا بعد مرور حوالي نصف قرن على تحرير معسكر أوشفيتز طرِحَت فكرة افتتاح معرض خاص يوثق لمعسكر مصنع المطاط الصناعي الذي عمل فيه الكيميائي بريمو ليفي كمحلل كيميائي في مختبرات مصنع المطاط.

وبحكم أنّ الشركة الكيميائية العملاقة "IG Farben" المسؤولة قديمًا عن معسكر أوشفيتز الثالث، هي في الأصل ناتجة من اتحاد ست من أكبر الشركات الكيميائية الألمانية بالغة الشهرة مثل شركات "BASF" و"AGFA" وشركة الأدوية "Bayer". قامت هذه الشركات الألمانية قبل عدة سنوات بتمويل إنشاء معرض خاص عن الجانب الكيميائي لمعسكر أوشفيتز الثالث. كنوعٍ من "التكفير" فيما يبدو عن تاريخها القديم في دعم النظام النازي.

وفي الختام، لا بدّ من التنويه إلى أن شركة "BASF" الألمانية تعدّ اليوم أكبر شركة موردة للمواد الكيميائية في العالم، وقد تكون مشاركة بشكلٍ أو بآخر في جريمة قتل مئات الآلاف في معسكر أوشفيتز، فكذلك شركة Bayer فهي واحدة من أكبر شركات الأدوية العالمية وهي الشركة المالكة لدواء الأسبرين الواسع الانتشار.، وهي باندراجها تحت شركة "IG Farben" فقد يكون قد ساهم علماؤها ومدراؤها القدامى بشكلٍ أو بآخر في جريمة الحرب تلك وقتذاك.

في الحقيقة، وأثناء إجراء بحث الدكتوراه في مجال الكيمياء في بريطانيا كنت أجري تجارب علمية قائمة بشكلٍ أساسي على استخدام أصباغٍ كيميائية من إنتاج شركة "BASF" ومهداة بهدف البحث العلمي لجامعتي البريطانية. وقد وقعتُ على تعهّد مع الشركة بأن لا يتم نشر التركيب الكيميائي لتلك الأصباغ التي كنت أعمل عليها. ومع هذا الترابط الكيميائي بيني وبين تلك الشركة الكيميائية، وبعد أن سبق لي قراءة كتاب "إذا كان هذا رجلا" لبريمو ليفي، وحيث أنني قمت بزيارة معسكر أوشفيتز، من هذا كله ظهر لديّ الدافع لكتابة المقالة.

وعليه، في حال قام أحد الأطباء بعد أن يصرف لمرضاه دواء الأسبرين أو غيره من منتجات شركة الأدوية "Bayer"، وبعد أن يكون قد قرأ  كتاب "ذكريات طبيب في أوشفيتز" للمسجون والطبيب الهنغاري اليهودي "ميكلوس نيسزلي" (الذي سجّل شهادته عن إجباره على إجراء التجارب الطبية على الأسرى اليهود)، ثم اتيحت لهذا الطبيب الفرصة للزيارة الفعلية لمعسكر أوشفيتز، فربما نطمع أن نحظى منه بمقالةٍ تحمل عنوان "طبيبٌ في معسكر الإبادة النازي".

 

تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com​

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

      

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

مواضيع ذات علاقة

0 التعليقات

أضف تعليقك

/* Whatsapp Share - 26-6-2023 */